

تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلقَ كُلَّ شيءٍ بِقَدَر، وهدى الإنسانَ إلى السبيلِ ويَسَّر، وصلى الله على سيدنا محمدٍ المبعوث رحمةً للبشر، وعلى آله وصحبه وسلم وعلى كل من حمدَ وشكَر.
وبعد
فإن الطريق إلى الله تعالى هو الشرع المُنَزَّل، أما الطريقةُ فكيفية السلوك عليه، ولذا فقد سمى العلماءُ من أهل هذه الطريقة التصوُّفَ فنًّا، وقد برعَ منهم غير قليلٍ مِمَّنْ جَمَعَ مِنْ علومِ الدينِ وعلومِ الحِكْمَةِ مَا رَفَعَهُ إلى أعلى رُتَبِ العُلماءِ، وهؤلاء هم أقطاب التصوف وأعلام الدين، ومنهم الجُنيد سيد الطائفة، وسيدي عبد القادر الجيلاني، وسيدي أحمد الرفاعي، وسيدي أبي الحسن الشاذلي، والشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي، وغيرهم من السلف والخلف رضوان الله عليهم.
وقد وَرَدَ لفظُ الطريقةِ في كتابِ اللهِ تعالى مرَّةً واحدةً في قوله تعالى حكايةً:

وللبيب في هذا المعنى إشاراتٌ نافعةٌ، فلا تَحقُّق لمن لم يستقم على الطريقةِ، والاستقامةُ لا تحصُل إلا بالعملِ القائم على علمٍ واضحٍ، وليس أوضح من الشرع الشريف حيث بيَّن لنا الحق تعالى به ما ينبغي على المسلم من الأعمال، ثم يكون لكل عمَلٍ نتائج، فنتائج الأعمال إنما هي الأحوال، وإن شئتَ قُلتَ الأذواقُ وما تحصِّله الأسرار من الأسرار، وفي طي ذلك علوم الأذواق وعلوم الأسرار مما وراء علوم النظر الفكري.
ثمَّ إشارةٌ أخرى فيما حكاه الحق سبحانه وتعالى عن جماعة الجن في الآية المذكورة، وهي أن الطريقةَ برزخٌ بين الشريعةِ والحقيقةِ، فالحقائق من وجه كونها مجردة عن الصور عسيرة المدرجِ، وإن كانت لا تخالف الشريعةَ المُنَزَّلَةَ، ولذا قرر المتحققون من أهل الطريقة السنية من المجاهدات والرياضات ما وجدوا فيه أسباب رفع الحُجب بين إدراك السالك من وجهٍ والحقائق من وجهٍ آخَر؛ كحُجُبِ العادات والحواس وما يحجب قلب العبد من الران والصدأ وغير ذلك.
والطريقة اصطلاحًا عند القوم طريقةُ الإرادة، ومبدأُ السلوك عليها كسرُ العادة؛ أعني عادات النفوس البشرية، والشخوص الآدمية، إذ العادة حجابٌ، ولا يخرج طال طريق الحق عن حُكْمِ هواهُ إلا بالاتباع والتسليم إلى أستاذ ناصح ممن سبقه في سلوك الطريقة القويمة، وعلى ذلك فإن الأستاذ من لزم الأصول والآداب والمقتضيات واللوازم المقررة في الطريقة التي سلكَ عليها حتى فتحَ الله عليه ببركة الاتباع الموصِّلِ للانتفاع، وهذا ما يُعرف بسلسلة سند الطريقة المعينة، إذ أن هذا الفن لا يؤخذ من الكتب والصحائف، بل لا يُنتفع به إلا من عرف شرف صحبة العلماء.
ولمَّا كان الأمرُ على هذا القانون، كان قوام الطريقة عبارة عن شيخٍ ومريدٍ ومنهج ومقرر؛ كما هو الحال في كافة مدارس التربية. ولقد تجلى هذا في كل طريقةٍ من طرق السادة الصوفية السالكين على طريقة أهل التحقيق من أكابر العلماء الأولياء، وهُم أهل المشاهدةِ والحضور؛ إذ لا تغيِّبهم مشاهدة الحقائق عن القيام بأحكام الشرائع، ولا تخطف أبصارَهم أنوارُ الملكوت عن العمل بما كُلفوا به من الأعمال في عالم المُلك، فأهل التحقيق هُم المردودون من حضرة الحق إلى عالم الخلق لإرشادهم، بحَسبِ ما شاهدوا وذاقوا ما شاء الحق لهم.
ومن أكابر أهل التحقيق في تاريخ الإسلام سيدي الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي رضي الله عنه ورضى عنَّا بمحبته، وقد ثبت له ذلك اللقب؛ أعني لقب الشيخ الأكبر عبر ثمانية قرون من الزمان، وانتفع به جُل من خلفه من أكابر أهل هذه الطريقة المنيفة من سائر الطرق والمشارب، وتلاميذ الشيخ ممن صاحبوه أشهر من أن نذكرهم في هذا المقال، وأوراده مشهورةٌ أيضًا؛ لقنها لتلاميذه ومريدي طريق الحق تعالى على طريقته، ولقنوها لمن أخذ عنهم حتى وصلتنا كاملة غير منقوصة، كذلك فإن الشيخ الأكبر رضي الله عنه ممن توسع في تبيين آداب الطريقة وأصولها، وهو صاحب منهجٍ في التربية والسلوك شهد له أهل هذا الفن بأنه أثر في التصوف من بعده فلم يَعُد يقتصر على مظاهر الزهدِ بل جعلَ من التصوف ظاهرة وجودية.
وقد يحلو لبعض الباحثين أن يصفوا تصوف الشيخ الأكبر بالفلسفي، وهم معذورون عندنا لكونهم نظروا إلى عُمق ما قدَّمه رضي الله عنه في مؤلفاته، وما وراء ذلك مما يُبرز سعة علمه وحكمته، ولذا نرى بعض من قصدَ الإنصاف يصفه بالتصوف الحِكَمي أيضاً. ولكن الواقع على خلاف هذه الأوصاف؛ إذ التصوف كما قلنا لا يؤخذ من الكتب والدفاتر فحسب، وهذا مما نبَّه إليه سيدي الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الذي وضع عددًا من الرسائل في آداب السلوك مبينا لزوم صحبة المريد للشيخ المرشد، وعدم الانقطاع عن صحبته حتى يأذن له بالإرشاد إن وجدَهُ أهلا له.
فتصوُّف الشيخ الأكبر تصوفٌ عمليٌّ سُنِّييٌ تلقاه جيلٌ عن جيلٍ، وانتسب إلى الطريقة الأكبريةِ أعلامٌ من العلماءِ، ومنهم من ألّف فيها كالشيخ أحمد الأروادي النقشبندي الأكبري، ومنهم من تلقاها عن شيوخه ولقَّنها لتلاميذه كسيدي عبد الغني النابلسي والشيخ الكبير مرتضى الزبيدي وغيرهم ممن أثبتوا نسبتهم إلى الطريقة في أثباتهم وإجازاتهم لخلفهم، وهم الأمناء على ما تلقوا من العلوم والفنون والطرائق، فرضي الله عن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي، وعن الأمناء من ورثته في كل جيل، وجزاهم الله خيرا على ما حفظوه من رسوم الطريقة الأكبرية وجواهرها، حتى وصلت إلى هذا الجيل الذي نحن فيه، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا لخدمة الطريقة وحمل الأمانةِ إلى أهلها في زمنٍ أحوج ما يكون أهله إلى التصوف الصحيح.
