بعض أسئلة من المريدين جاوب عنها الشيخ أيمن حمدي الأكبري رضي الله عنه وأرضاه
سألت شيخنا الشيخ أيمن حمدي رضي الله عنه وعن الشيخ الأكبر: مولانا الكريم يخلط البعض بين وحدة الوجود ووحدة الشهود، ويُنكِرُ على مَن قال بوحدة الوجود، ويذكُرُ بعضهم أن الشيخ الأكبر قال: بوحدة الوجود الفلسفية، فهل هذا صحيح؟ وما رأيكم فيمن فسّر وحدة الوجود بـ: أن الكون كله هو الله تعالى؟
فأجاب رضي الله عنه بما يلي:
اعلم سيدي الحبيب أن الأصل في التوحيد نفي الشريك في حق الله تعالى من وجه ألوهيته، ولنا فيها الشهادة بقول «لا إله إلا الله» وعقدُها في نفس العبد «لا معبود إلا الله»، غير أن الشرك أخفى من دبيب النمل، كما نبّهنا سيدنا صلى الله عليه وسلم ، فاحتاج العبد إلى الجهاد لرفع حُجب الأسباب وعدم الميل إليها حتى لا تصير الأسباب في حقه أربابا.
ومن خصائص التوحيد نفي الشبيه، والند، والأصل، والفرع عن الحق تعالى، وكل ذلك مجموع في سورة الإخلاص الذي افتتحها تعالى بنفي الكثرة.
والأصل ألاَّ يتكلم في ما وراء ذلك مثلي من المقصرين، غير أن حُسن ظن السائل يلزم المسئول الجواب على التقريب؛ إذ حقيقة التوحيد لا يتوصل إليها العبد بالفكر والوهم، فكل ما يقال في التوحيد من حيث النظر الفكري هو محض ظن؛ وهنا وقعت الحيرة فيما لا يصح فيه التقليد من معرفة العقائد، وما لا يجوز فيه غير التقليد.
وعند الفقير أنه لو كان التوحيد مما لا يجوز فيه التقليد؛ لكان توحيدا عقليا، وصاحبه آخر من يخرج من النار، كما جاء في الشرع المُنزل، فلزمنا كلمة التوحيد تقليدا، وألزمنا أنفسنا الاستهلاك فيها ونسأل الله تعالى أن يرزقنا علم لا إله إلا الله.
وهذه مقدمة لما سألتم عنه، فإذا رجعنا إلى أصل السؤال أقول:
إنَّ الفقيرَ لم يجد في كل ما اطّلع عليه من كتابات الشيخ الأكبر محيى الملة والدين أنه استعمل لفظ وحدة الوجود أصلًا، وكذا لم يأتي ذكر اصطلاح وحدة الشهود في ما وصل إلينا من مؤلفاته.
ولكن لمَّا ألصقَ بعض المنكرين هذا الوصف بكلام الشيخ الأكبر في الوجود الواحد، وتصدى لهم الأكابر من أهل السنة فبينوا صحة اعتقاده فيه، وأنَّ ثمَّة وحدة يتكلم عنها الشيخ الأكبر في مؤلفاته، وأنَّها مغايرة لمعنى الوحدة عند الفلاسفة والدهريين، اضطررنا إلى النزول واعتبار أن لأهل التحقيق من أكابر علماء المسلمين مفهوما سُنيا لوحدة الوجود هذه.
واعلم سيدي أنَّ أصل الإنكار حاصل لتوهم معنى خاص للوجود لم يعتمده الصوفية في مثل هذه المواضع، وهو قول المتكلمين بأن وجود الشيء هو عين ذلك الشيء لا غيره ولا هو شيء زائد عليه.
ومن هنا ثبتت الكثرة، ولزم لنفي الشرك والاشتراك القول بالوجود القديم والوجود الحادث، وهنا يحتاج المُطلَّع إلى معرفة النِّسب، وهو أمرٌ يحتاج إلى إطناب يخرج بنا عن المسئول عنه.
وخلاصة القول في هذه المسألة ان ثم وجود حق هو وجود واجب الوجود سبحانه وتعالى، وأنه فائض على كل متعين ولولا فيض وجود الحق ما ظهر للمتعينات وجود.
أما سؤالكم عمن فسَّرَ وحدة الوجود بأن الكونَ كله هو الله فأولئك هم الكافرون من متحذلقة الإلحاد.
واعلم سيدي أن الجنة حق والدنيا حق والموت حق إلى غير ذلك مما هو مخلوق لله تعالى، وقد سمَّاه الشرع حقًا، فلا يلتبس على عاقل أنَّ إطلاقَ القوم اسمَ الحق على الخلق في مواضع من كلامهم لا يكون إلا مطابقًا لإطلاق الشرع، فلا بدُّ من الوقوف على اصطلاح أهل الأذواق فيما اطلقوه من كلمات كالحق والعين، وإن اشتهرت عنهم كلمات كالحال والمقام والفناء والبقاء، فمتى قال قائلهم: إن الحق هو عين كل شيء، فاعلم أن عين الشيء حقيقته من كونه حقا، كما قال صلى الله عليه وسلم « لكل حق حقيقة »، فحقيقة الحقائق عندهم عبارة عن التعين الأول، وحقيقة كل شيء وعينه لا تدرك من حيث كونها في رتبة اللاَّ تعين، ولذا لن تجد من أقوال أهل التحقيق أن كل شيء هو، فوجب التمييز بين قول المحقق: الحق هو كل شيء، وقول الملحد: كل شيء هو الحق.
فإذا انتقلنا إلى أصل سؤالكم عن التمييز بين وحدة الوجود ووحدة الشهود، وهو ما قال الفقير فيه أنه لا يحق لأمثالي من القاصرين المقصرين الخوض فيه، فأقول على التقريب أن مَثل وحدة الشهود تراه في قول أهل القبضتين يوم الميثاق حيث شهدوا بربوبيته تعالى، ولا يكون الشهود الحق إلا إقرارا بحق الحقيقة، وهو ما جاء به الشرع من مثل قول النبوة: « كان الله ولا شيء معه ».
فوحدة الشهود تطلق على معنيين:
الأول: أنَّ كل ما يقع عليه نظر العارف يشهد بالوحدة، والمعنى الآخر عبارة عمَّا يكون مِن شهود العبد في حال فنائه عن أعيان الأكوان.
وقوله عند ذلك الذوق: ما رأيت شيئا إلا الحق تعالى، وهي رؤية ذوق لا معاينة بصر. وأعني بالفناء؛ استغراق العبد في الذكر وترقيه إلى حال الاستغراق في المذكور تعالى عن كل وصف، حتى يغيب عن مدركات حواسه، فيكون حاله الفناء عنها لا فناء أعيان المحسوسات في نفسها، فيتصور عدمها وما هي معدومة على التحقيق، وقد يراها باطلا وما هي كذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: أصدق بيت قاله العرب : ألا كل شيء ما خلا الله باطل؛ أي في حكم
الباطل أو العدم، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم كما أشرنا أن الموت حق والجنة حق.
أما وحدة الوجود، فهي حقيقة يجدها العارف، ولا يقدر على دفعها متى رده الحق إلى مقام البقاء بما هو فناء الفناء، فكيف يدفع ما انتقش في قلبه في حال شهوده! وأعني بفناء الفناء ارتفاع الحال المشار إليه بالفناء، مع بقاء أثره من ذوق استيلاء الحق تعالى على كل شيء، وهو البقاء بالله بعد الفناء في شهوده.
والحق أنه كما أن للفناء حالًا ومقامًا ولكل منهما رُتَبٌ يتمايز بها أهل الأذواق، فكذلك يكون البقاء على مراتب؛ ومنها قال بعضهم: ما رأيتُ شيئا إلا ورأيت الله قبله، ومنهم من قال عنده، ومنهم من قال وراءه، أو قال معه إلى آخر هذه الأقوال النابعة عن الأذواق، وقد عبروا جميعا عن التوحيد بالبحر المحيط، ولذا يرى الفقير أنَّ الوقوف على ساحل هذا البحر أولى؛ إذ لكل اسم توحيد خاص به، بل ولكل اسمٍ جمعٌ أيضًا، وهذا مما يحتاج إلى دواوين لبيانه، وإن كان أصله معلوم في توحيد كثرة الاسماء المعلومة من قوله تعالى: قل هو الله أحد، فاسمه الله له أحدية جمع جميع الاسماء، وكذا فكل اسم من أسمائه هو الله، وفيه جميع الاسماء أيضا، فلا يقوى كل أحدٍ على مقاومة هذه الأمواج، فمن أمواج التوحيد ما يعطي التمييز كما هو الحال في توحيد الربوبية، ومن أمواجه ما لا يقوى السابح معها إذا لطمه الموج أن يميز شيئا عن شيء، وفي مثل هذا قال الفقير:
ثلاثةٌ توحيدهم لازمُ
العلمُ والمعلومُ والعالِمُ
ولعلَّ من الإنصاف أن نقول إننا قد نجد العارف يتنقل بين هذه العبارات، ولا نعلم أيها أرفع مرتبةٍ؛ إذ يحتاج الحكم على مثل هذا إلى خوض تلك المقامات، أو كما قال الشاعر:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها
سألت شيخنا الشيخ أيمن حمدي شيخ الطريقة الأكبرية عن معنى قول الشيخ الأكبر رضي الله عنه في كتابه تلقيح الأذهان : “واعلم أن وصف الإنسان هنا (إنه كان ظلوما جهولا) بالظلم والجهل من حيث التجلي في الكون مدح”
فكيف يكون مدحا وقد وصف بالظلم والجهل؟
فأجاب رضي الله عنه بما يلي:
اعلم رحمك الله أن المدح والذم يتعلقان بالاستقامة على الأصل أو الانحراف عنه، فلما كان أصل الإنسان من ظلماتٍ؛ سواء ظلمةُ عدمِهِ أو ظلمةُ طينتِهِ كان وصفه بالظلم عبارة عن “كونه نتاج الظلمة”، كذلك كان في حال عدمه يجهل وجوده في علم الله، وهذا أصل آخر.
ثم إن صدوره من ظلمة العدم إلى نور الوجود كان بتجلي نور الله تعالى، والتجلي يكون بحسب الصور والقوابل، فكما تجلى الحق بغنَاهُ ظهرَ افتقار العالَم إليه، فالفقر عبارة عن:” تجلي الغنى الإلهي في عالم القوابل” ،وإن كان فيهم بعض غنى فافتقارهم لبعضهم البعض حاصلٌ بلا ريب، كذلك تجليه تعالى بصفة العلم يكون في صورة جهل العالَم، وتجليه بصفة العدل حاصل ببروز ظلم المخلوق، فمدحُ الحق الإنسانَ بالظلم والجهل لا في ذاتهما، ولكن من حيث كونه بهما مجلى العدل والعلم، فلولا افتقارك ما عرفت غناه، ولولا جهلك ما عرفت علمه.
وما من عالم ينظر لعلمه بنور العليم الا ويعترف بجهله
سألت شيخنا الشيخ أيمن حمدي رضي الله عنه وعن الشيخ الأكبر
مولانا الكريم السلام عليكم ورحمة الله:
ما معنى قول السادة الصوفية : هذه المعارف فوق طور العقل ؟ وهل هذا معناه إهمال العقل؟ وهل ما فوق طور العقل يتنافى مع الشرع؟ وأيضا يقع في كلام أهل الله تسمية علماء الشريعة بعلماء الرسوم؛ فهل هذا انتقاص من قدرهم كما يظن البعض؟
فأجاب رضي الله :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
اعلم سيدي الفاضل
أننا تكلمنا في بعض مجالسنا، وكتبنا وخاصة كتاب الطريقة الأكبرية الحاتمية عن المدركات، وأوضحنا أنها تنقسم إلى ما يُدرَكُ بالحواس؛ وهي المحسوسات، وما يُدرك بالعقل؛ وهي المعاني والحقائق المجردات عن الصور، ثم ذكرنا أنَّ من جنس المحسوسات ما تضعف عن إدراكه الحواس، كالأشياء البعيدة غاية في البعد، والقريبة غاية في القرب كالهواء الملاصق لحدقة العين، وكذا المحسوسات ذات الصور المتناهية في الصغر، والمحسوسات الكبيرة جدا؛ فلا تدرك كاملة.
وكذا يكون الأمر في شأن المعقولات؛ إما لتفاوت مدارك العقول، كأن يقوى عقلُ زيد على إدراك ما يعجز عنه عقلُ عمرو، وإما لتجرد بعض الحقائق عن النسب والإضافات بحيث لا تُعلم تلك الحقيقة بما هي عليه وإنما تُعلم بالإضافة إلى شيء، أو بالنسبة إلى غيرها.
وأما ما يضرب الله بينه وبين الحس أو العقل حجابًا فلا يُدرك إلا بإخبارٍ إلهيٍّ مِن وحيٍ أو إلهامٍ، أو يُطلع الله عليه من شاء من عباده كشفًا؛ إما في صورة خيالية أو مثالية أو ما شاء الله تعالى من أصناف المُكَاشَفَات والإخبارات.
وأمثال ذلك ما يُطلق عليه في عرف أهل طريق الله أنه مما وراء طور العقل؛ يعني أن العقول لا تدركه بدايةً من حيث نظرها الفكري بالاستقلال، وإنما للعقول أن تقبله متى جاءها بطريق الإخبار من المعصومين صلوات الله تعالى عليهم أجمعين، أو برفع الحجاب لمن شاء الله تعالى.
وقد أنزل الله الشرائع بمثل ذلك، كحساب أهل القبور، وكالبعث بعد الموت، وكالحساب والقيامة ومواقفها، وكذلك الجنة والنار، ومن ذلك ما جاء في وصف الجنة بأن فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنُ سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ولا يَتصور منصفٌ أنَّ في وصفهم لبعض المعارف أنه مما وراء طور العقل تنقيصًا لدور العقل، إذ أجمعوا أن العقل مناط التكليف، ولا يتسع المقام لذكر ما أنزل الله تعالى من الأمر بالنظر والتفكر والتدبر، وكذا لا يتسع المقام لذكر أقول شيوخنا في ذلك، فاكتفينا بالإشارة إلى منهجهم في المجاهدات والرياضات وإعلامِهم بأن العبد لا يزال مسافرا في الأكوان أو القرآن، وأن الكامل عندهم من سافر في الأكوان بالقرآن، كما أشرنا في بعض المجالس، فأوضحنا أن السفر في اصطلاحهم عبارة عن التنقل بين المعقولات، وتنعيم النظر في الأكوان والمكونات، وفي هذا القول ما يغني اللبيب عن مزيد إيضاح.
فإذا انتقلنا إلى القسم الأخر من سؤالكم الكريم، والذي يدور حول مقصدهم في الإشارة إلى صنفٍ من العلماء بوصفهم بعلماء الرسوم؛ فبيان ذلك أن للشريعة مبانٍ ومعانٍ، فالقول في العبادات والمعاملات من حيث حدودها وهيئاتها عبارة عن رسم الشرائع ومبانيها، أما معرفة المقاصد والغايات من تلك العبادات والمعاملات فعبارة عن الاطلاع على حقائقها ومعانيها، فرسم كل عِلمٍ كالصدف على اللآلئ، وحقيقة ذلك العلم هو الجوهر المصون!! ألا ترى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف وصف أناسًا بأنهم يقرأون القرآن لا يبلغ تراقيهم، وكذا نَبّه الشارعُ على أن من الناس من تحتقر عبادتك بالنظر إلى عبادته، فكان هذا الوصف ذمًّا لهم، قال الشاعر:
أما الديارُ فإنها كديارهم
وأرى نساء الحي غير نسائها
فاعتبرنا على سبيل المجاز الديارَ رسوم العلوم، والنساء الحقائق المطلوبة لسالك طريق الحق. أما قول الشاعر:
أمُرُّ على الديارِ ديارِ ليلى
أُقبِّل ذا الجدارَ وذا الجدارَ
وما حُبُّ الديارِ شغفن قلبي
ولكن حُب من سكنَ الديارَ
فهذا مطلب المحبين من الرسوم، وما العبادة إلا تعبيدَ الطريق إلى معرفة الحق تعالى، وقد ورد عن ابن عباس أنه قال في معنى قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) أي ليعرفون. فإذا كان العلم أسنى المقامات، فالعلم بالله أرفع العلوم، بل هو العلم الحق، لقوله تعالى آمرًا خاتم النبيين صلوات الله عليه (وقل ربي زدني علما) أي علما بك؛ وهو علم التوحيد لقوله تعالى (فاعلم أنه لا إله إلا الله) فمَن حَدَّ علم التوحيد بالرسوم والأقوال، فما ذاق شيئا من نتائج الأعمال والأحوال.
واعلم أن من علماء الرسوم من بلغ أعلى مقامات الولاية، وأولئك هم حفظة الشرع، وقد حضرتني في مَنْ هَذا حالُهُ أبيات فارتجلتها:
لولا أُعاهد دارَ مي لأقفرت ….أو قد عَفَت منها رسومُ نعيمها
كم أنعمت بلقائنا في منزلٍ….لا زال يلقي للرياح نسيمها.
واللهِ لو آتيه خَمسًا ما كفى… بل خمسةٌ تكفي لسرٍّ في اسمها
أعني ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه واله وسلم في الصلاة (هي خمسٌ وهي خمسون) فجعل سبحانه الصلاة من حيث رسمها خمس صلوات، ومن حيث حقيقتها خمسون، وقولي (لسرٍّ في اسمها) هو أن عدد اسم مي في حساب الجمل خمسون.
فمن كان كمثل هؤلاء في المحافظة على رسوم العلم فهو من حفظة الشرع المشرّف، ومن وقف عند رسومه ممن أنكر حقائقه يدركها أهل المجاهدات فهو ممن حجّر واسعًا، وضيّق على الناس ونفّرهم من الدين، فهؤلاء الصنف من علماء الرسوم هم ممن حدَّ علم التوحيد برسم فهمه، وظن أنَّ الحق ما ارتسم في وهمه، فتراهم يختلفون فيما اشتركوا فيه وهم لا يعلمون، يقول أحدهم لا أخالف النص بالتأويل، فيتهمه الأخر بالتجسيم، فكثُرت إلزاماتهم للخلق وهؤلاء وهؤلاء في التشبيه على السواء، هذا شبهه بالأجسام، وذاك شبهه بالمعاني، ولو تأملوا قوله تعالى (ليس كمثله شيء) لاتسعوا لما أنكروه مما هو وراء أطوار العقول، فأشهدهم الله ما شاء بنور المنقول.
سألت شيخنا الشيخ أيمن حمدي عن معنى قول الشيخ الأكبر رضي الله عنه: في كتابه الفتوحات المكية في الباب الرابع والثمانين:
وبعض العارفين قد يفعل هذا-يعني: يقول: قال لي، وقلت له، إذ لم يروا قائلاً في الوجود غير الله حالاً ولفظاً، وكله علم بمحقق، غير أنه إذا كان تعبيرًا عن مراتب علوم، فيتوهم السامع منه إذا قال صاحب هذا المقام: قال لي، وقلت له، أن الحق يكلمه، فإذا سأله السامع عرفه بالأمر، فإنهم أهل صدق إذا كان السائل مؤمناً بما يقوله أهل طريق الله، فإن كان مترددًا في إيمانه بذلك، فإنه يسكت عنه في ذلك إن كان ممن لا تلزمه طاعته شرعاً، فإن كان ممن تلزمه طاعته شرعًا، وليست عنده أهلية لذلك، قال له: إنما هي عبارات أحوال، ونطق حال لا نطق مقال، كما تقول الأرض للوتد: لم تشقني، فيقول لها الوتد: سلي من يدقني؛ يعني الدقاق الذي يدق به الوتد، وهذا لسان حال معلوم يضرب مثلاً معروفاً بين الناس.
فأجاب رضي الله عنه وعن الشيخ الأكبر:
يعني أن خطاب الحق تعالى للعبد يكون على مراتبَ كلها غير التكليم، ولكنها معاني يلقيها الحق تعالى في قلب العبد بطريق الإلهام بواسطة الملك أو بطريق المكافحة، والمراد به أن يفنى العبد ويُصرع، فإذا أفاق ترجم معاني ما انتقش في قلبه أقوالًا.
فيقول: قال لي وخاطبني، كما قال النّفري، فاللسانُ تُرجمان القلب المتلقي عن الرب، وقد يكلمه الله من وراء حجابٍ من طُور أو من جانب شجرة، أو من أي مرتبة بلسان حالها الذي يترجم عن الحق تعالى، وقد يكلمه البحر أو الرياح، كما كان صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي في بعض أوقاته، كصلصلة الأجراس، فينطق به صلى الله عليه وسلم قرآنا، فإذا سأل الطالب الواعي العارفَ عن حقيقة ذلك الخطاب صارحه بالرتبة، أو الكون، الذي سمع منه خطاب الحق، كأن يقول له أوقَفَني في كذا، فقال لي في قلبي تلك المعارف من أثر الوقفة.
أما إذا كان الطالب لا يملك المعرفةَ التي يَحتَمِلُ بها الشرح، قال له: إن كلامي هذا عبارة حالي، فهذا نطق الحال لا نطق المقال.
أما المنكر، فلا يرضى بشرحٍ؛ لاحتجابه بالأسباب وعدم ذوقه تلك الأحوال، فلا يلزمه شرح، بل ربما ادَّعى لنفسه مثل أقواله، ولو عرف شرح أحوال العارفين واطلع على اسرارهم مع بارئهم لادَّعى لنفسه مثل ما هم فيه، فيكون عقابه الجهل حتى إذا ادَّعى فضحه شاهد حاله.
فسألته عن مراد الشيخ بقوله: «كما تقول الأرض للوتد: لِمَ تشقني، فيقول لها الوتد: سلي من يدقني؛ يعني الدقاق الذي يدق به الوتد».
فأجاب رضي الله عنه وعن الشيخ الأكبر:
ورد في الكتاب والأحاديث والأثر أن الأرض تتكلم، ولا ينكرُ ذلك أي متعلم، فشبَّه العارفَ بالوتد؛ لكونه في نظر الأرض فاعل مؤثر، والحقُّ أنه مقهور تحت حكم الدَّاق، كذلك العارف ينطق بالكلام وهو مغلوب مكافحة (مصارعة)، وتظهر عنه الكرامة فيحسبها الناظر من خوارقه وآثاره، وهو مستعمل لإبراز ما أراد الحق تعالى إبرازه، وكذلك قوله قال لي؛ ترجمة ينتفع بها السامع المُصدّق.
سألت شيخنا الشيخ أيمن حمدي رضي الله عنه وعن الشيخ الأكبر:
سيدي الكريم يزعم البعض أنَّ مذهبَ الشيخ الأكبر أن الممكنات من الأرض والسماوات وما فيهنِّ سرابٌ وخيالٌ لا حقيقة له، وبنى عليه إسقاط الشرائع، إذن لا جنة ولا نار، ثم ذكرَ أن هذا مذهب السوفسطائية، وقد وجدت الشيخ أحمد العطار في الفتح المبين ينقض هذه التهمة بأن صاحب هذه الدعوى لم يفهم كلام الشيخ، وذكر أن توضيحها يتعلق بفهم الأعيان الثابتة فرجاء توضيح ذلك
فأجاب رضي الله عنه بما يلي:
سيدي الحبيب قد عَلِم كلُّ طالبٍ مُجِدٍ، أن العبارةَ أضيق من المعاني والحقائق المتصوَّرة في ذهن المتكلم بها، وكذا فإن التصورات الذهنية لا تسع على التحقيق صفات تلك الحقائق المتصورة، والمراد العبارة عنها كما هي تلك الصفات في نفس الشيء، وذلك يكون في المعاني البسيطة والحقائق القريبة؛ فما بالك بالحقائق الكلية الكونية أو الأسمائية الإلهية! وعلى الرغم من أن لكل أهل علمٍ أو فن اصطلاحاتهم الخاصة بموضوع علمهم ومسائله إلا أنه لِما أشرنا إليه من ضيق العبارة نجد أن الاشتراك واقعٌ بين بعض الفنون من حيث اللفظ مع تمايز المعاني والمقاصد، ومن هنا حصل الاختلاف وكثر الإنكار، والأوسع علمًا مَن التمسَ الأعذار.
واعلم سيدي أن معرفة الوجودِ بديهية من حيث أول ذلك التعرف، أمَّا ما وراء ذلك، فهو مما اختلف فيه أهل النظر الفكري من الحُكماء والمتكلمين بعضهم مع بعض، وكذلك الأمر في أكثر الحقائق الكلية، فأمَّا في أمر الوجود، فكما تعلم أنَّ منهم من قال بالوجود المشترك العام، وأنَّ وجود واجب الوجود عين ماهيته، فأوقعهم ذلك في معضلات؛ لكون الماهية عندهم لا توصف بالوجود ولا بالعدم، فإذا سلمنا لهم بأن وجود الشيء عين ماهيته ألزمنا ذلك القول بكثرة الوجودات لكثرة الموجودات مع تمايز ماهية الشيء الواحد عن غيره، وفي ذلك تشغيبٌ كثير.
ولا يخفى عليك أن اتفاق أهل التحقيق مع الحكماء حاصلٌ في مسائل كثيرة، وأن اتفاقهم مع المتكلمين أقل من اتفاقهم مع الحكماء كثيرًا، وخلاصة الأمر أنَّ الخلاف في إدراك الحقائق كثيرٌ جدا لاختلاف الأمزجة والمدارك والمقاصد، مع تعثر إدراك الحقائق الكلية المجردة لعدم قدرة كل أحدٍ على التجرد والإدراك بأحدية جمع ذات المُدرِك، وإنما الغالب إدراك الشيء من وجه خواصه وتعلقاته ونسبه وصورته، ولذا لزم أهل التحقيق المجاهدات والرياضات المزيلة لحجب الكثرة عسى أن يدركوا ما شاء الله من الحقائق الكونية والإلهية، فمتى أدرك العارف حقيقة كان حاله بين كتمانها وإفشائها بضرب مثال.
ومن الأمثلة التي ضربها الشيخ الأكبر لتقريب معاني الإبداع والإيجاد والخلق مَثلُ خيال الستارة، وربما يسمى اليوم عند أصحاب فن المسرح خيال الظل، وهو أن يستتر الرجل وراء ستارة ومعه عرائس يحركها فتنطبع ظلالها على الستارة والجمهور يشاهد ويسمع القصة، فتوهم بعضُ المنكرين أن الشيخ الأكبر قد ذهب إلى أن العالَم عبارة عن خيال، وزاد توهمهم لمّا رأوه قد تكلم عن الخيال فقسّمه إلى:
خيال متصل وهو خيال الشخص منا.
وخيالٌ منفصل، وهو خيال العالَم من كونه إنسانا كبيرا.
والخيال المطلق الذي هو الهباء أو الهيولى باصطلاح الحكماء.
وقد قال الشيخ عبد الكريم الجيلي رضي الله عنهفي هذا المعنى: ألا إن الوجود بلا خيال مُحالٌ في مُحالٍ في مُحال ولا يقظان إلا أهل حقٍّ مع الرحمن هُم في كل حال.
فخلطوا بين الخيال عندهم والخيال في مصطلح أهل هذا الطريق، والذي هو عندهم عالم الحقيقة ومادة كل شيء، وغفلوا عمّا أشار إليه من يقظة أهل التحقيق وحضورهم الدائم في حضرة الرحمن تعالى، فبالله عليك يا سيدي من الذي يمكن أن يتوهم القارئ في كلامه شبهة العدمية، سيدي الشيخ الأكبر الذي يرى أن الإنسان ظاهره خلقٌ وباطنه حقٌ، وأن العالم جميعه كلمات الله التي لا تنفد، أم القائل بأن الوجود عين الماهية، وأن الماهية سابقة على الوجود وأنه صفة لها وأنها في ذلك السبق لا توصف بالوجود ولا العدم. وأستسمحك عذرا على الخوض في هذا الكلام مما لا يحتمله المقام، وما عرجت عليه إلا لأقول: إن الثبوت والسلب في حق الحق تعالى من حيث صفاته مجرد تعقلات، وأنه تعالى مطلقٌ عن التقييد والإطلاق، وجوده الحق، وكل خلق استفاد وجوده من وجود واجب الوجود تعالى عما يصفه به الواصفون، وأن ذلك الوجود المفاض عبارة عن وجه الحق في كل خلق (كل شيءٍ هالك إلا وجهه) وأن تعين الشيء مظهر وجوده المستفاد، أما الحق تعالى فمنزه عن جميع التعلقات والتعقلات، ذاته لا تُدرك وصفاته لا تُحد، وأحديته عبارة عن صفة التعين الأول، وهو في غيب هويته حيث اللا تعين لا يعلمه غيره.
فإذا رجعنا لسؤالكم عن الأعيان الثابتة بحسب ما أورده الشيخ العطار في معرض دفع الشبهة الواردة في الرسالة المنسوبة إلى العلامة السعد التفتازاني، فقد كفانا الشيخ العطار رضي الله عنه مؤنة الرد عليها، وإن كنت أعجب من ورود تلك الشبهة على لسان التفتازاني وهو من هو، بل إن في كلامه ما لا ينافي مذهب الشيخ الأكبر في التوحيد.
أما الأعيان الثابتة، فهي عبارة عن معلومات علم الله القديم، وقد كانت ولا زالت معلومة مشهودة لله تعالى لم تبرح حضرة علمه، بما يقتضي القول بأن علمه بنفسه عين علمه بمعلوماته، أو كما قال الشيخ الأكبر: عَلِم نفسه فعَلِم العالم.
واعلم أن علمه تعالى بحقيقة كل كون قبل إبرازه عين علمه بها بعد ظهوره ، وإن شئتَ فقُل إنه تعالى قد علم كل عين، بل وكل تغير يطرأ عليها حال كونها منذ ثبوت عينها في حضرة علمه القديم، وذلك بعلمه بذاته وأسمائه وصفاته وجميع شئونه التي هي عبارة عن تجلياته على معلوماته. فمَن عَلِمَ ذلك عَلِمَ أنَّ حقائق الأكوان كانت ولا زالت في حضرة الإمكان، وما زاد عليها إلا فيض أنفاس الرحمان، ولذا قيل: كان الله ولا شئ معه ، وزاد بعض العقلاء فقال : وهو الآن على ما عليه كان.
أقول: وكذلك حقائق الأكوان، معلومة له تعالى ومشهودة، وهي في حضرة قِدمه مبهوتة، وما زاد عليها إلا شهودها بعضها البعض على قدر ما أفاض عليها تعالى من النور الذي أثّر فيها الظهور، فذلكم نور الوجود.
ولما كانت تلك الأعيان ثابتة وما زالت كان العالم عبارة عن أثار تجليات شئونه وإفاضات نور وجوده عليه، ومن تلك الإفاضات والتجليات كان حدوثها في الخارج الذي هو العَالم، فالمنصبغ بنور الوجود عند الشيخ الأكبر إنما هو مظاهر تلك الأعيان لا حقائقها، إذ لو انصبغت الأعيان الثابتة بالوجود في حضرة العلم القديم لكان ذلك عبارة عن ثبوت قِدمها، وهذا محال في حق الحادث. ومن هنا اعتبر العارفون العالَمَ بجميع أكوانه ظلالا مدها الحق تعالى، وهو قوله سبحانه (ألم ترى إلى ربك كيف مد الظلَّ) أي أبرز العالم (ولو شاء لجعله ساكنا) كما كان أعيانا ثابتةً في حضرة علمه القديم (ثم جعلنا الشمس عليه دليلا) فأوضح لنا سبحانه أنه لولا انبساط نوره لما ظهر تشخصات الأكوان، وقوله تعالى (ثم جعلنا الشمس عليه) أي على الظل الذي هو العالم بأسره (دليلا) فبنور وجوده تعالى نعرف العالم لا بالعالم نعرف وجوده. فهذا سيدي الكريم سبب اعتبارهم الظلال في العبارة عن الأكوان، إذ لو لم تكون الأكوان المتشخصة ظلالا؛ لكان الظاهر هو عين وجود الواجب سبحانه، وهذا هو الكفر نعوذ بالله منه. فمن عبر الأمثال إلى ممثولاتها لم تلتبس عليه مقاصد العارفين من أهل التحقيق، أصحاب المشاهدة والوجود، وعمدتهم في العلم سلطان العارفين الشيخ الأكبر محيى الدين، خسر من حصر كلامه في القول بوحدة الشهود أو وحدة الوجود، وإنما هي اصطلاحات اشتركت عند أهل بعض العلوم من الحكماء الإلهيين والفلاسفة الملحدين وبعض المتكلمين، وكلٌ منهم قصد بها بمعنى غير الذي قصده أهل الفن الأخر.
وأهل طريقتنا المثلى لم ينشغلوا بتحصيل تلك العلوم الرسمية، لوقوفهم مع قوله تعالى (واتقوا الله ويعلمكم الله) جعلني الله وإياكم منهم وشغلنا بما يرضيه، أسأل الله أن أكون قد أجبت على سؤالكم دون إخلال، ثم أختم قائلا:
قُل الله يا خِلِّي وذَر من أنكرَ
وذَر الخائضَ في الذي أعيا الورى
إنَّما التوحيدُ بحرٌ مُهلِكُ
حظُنا منه لنا ما فطرَ
ليت شعري ليتني وحَّدتني
أم تراني واحدًا قد كثُرَ
يا حبيبي عندنا الجذعُ بكا
فرمونا بخيال الشُعرا
سألت شيخنا الشيخ أيمن حمدي رضي الله عنه ، شيخنا الفاضل
يقول الشيخ الأكبر رضي الله عنه وعنكم في الفتوحات: « المنازلات التي بين حقائق الأسماء الإلهية وبين الحقائق الإنسانية في الإنسان الكامل امرأة كان أو رجل تتعدد بتعدد التوجهات والأسماء ، وماعدا هذا الصنف الإنساني فليس له هذا التعميم لعدم كمال الصورة فيه » . فما معنى البين هنا، وما مراده بالتعدد، وما مراده رضي الله عنه ، بقوله: وما عدا هذا الصنف فليس له هذا التعميم، وما المراد بكمال الصورة، وهل يوجد صنف إنساني لم تكتمل فيه الصورة من حيث نشأته، وفي أي عالم تقع المنازلات
الحواب
اعلم سيدي الفاضل أن المنازلة في اصطلاح الشيخ الأكبر عبارة عن فعلٍ حاصلٍ بين فاعلين، فهذا معنى البينية الذي سألتم عنه، فهي عن تنزل إلهي بحقيقة أسمائية وصعود وارتقاء من العبد بحقيقة مناسبة من حقائقه الإنسانية، وموطن مقابلة الحقيقتين يسمى منزلا، ويكون قصد العبد في المقابلة التنزل بالحق، وذلك بإبراز فعله تعالى.
فإذا علمتَ ذلك علمت ما التعدد المقصود، أعني لتعدد الحقائق الأسمائية من وجه، وتعدد توجهات العباد من الوجه المناسب لكل اسم، إذ لكل اسم الهي ما يقابله من الحقائق الانسانية المناسبة المستعدة للانفعال.
وقول الشيخ الأكبر رضي الله عنه: (في الإنسان الكامل إمرأة كان أو رجل) لأن الكمال لا يقتصر على الذكورية.
أما كمال الصورة فيعني بها مجلى الاسماء الإلهية، والصورة صورة أخلاق الاسماء، إذ لكل اسم إلهي أخلاق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (خلق الله أدم على صورته) أي صورة الاخلاق الاسمائية التي لا تصح الخلافة إلا بها، إذ الخليفة عنوان مستخلفه ومظهره.
ولا يكون ذلك الكمال الا في الانسان المخلوق بتوجه جميع الاسماء كلها، وبتوجهها علمها ادم عليه السلام لما علمه الله الأسماء كلها،
أما قولك وهل في هذا الصنف الإنساني من لم يكتمل فالجواب نعم، إذ لا يكمل الا ولي وما فوقه، والمنازلات تكون في المنازل كما بينت لك، ولا نطيل بالكلام عن برزخيتها لكونها لا تصح الا تنزلا، ولا يصح ان نحدها بعالم الخيال او المثال او غير ذلك، لاختلاف الاستعدادات، والله أعلم
سألت شيخنا الشيخ أيمن حمدي رضي الله عنه عن معنى قول الشيخ الأكبر رضي الله عنه
يا أهل يثرب لا مقام لعارف … ورث النّبيّ الهاشميّ محمّدا
عمّ المقامات الجسام عروجه … وبذاك أضحى في القيامة سيّدا
صلّى عليه الله من رحموته … ومن أجله الرّوح المطهّر أسجدا
لأبيه آدم والحقائق نوّم … عن قولنا وعن انشقاق قد هدى
فجوامع الكلم التي أسماؤهما … في آدم هي للمقرّب أحمدا
فأجاب وفقه الله لكل خير
قوله
(يا أهل يثرب) يعني يا أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم العلماء الداخلون في حيطته صلى الله عليه وسلم لقوله [ أنا مدينة العلم] وأعلى كل مدينة سكانها المقيمين فيها واختار يثرب لقوله تعالى {لا تثريب عليكم اليوم} وإن كانت سميت يثرب على اسم رجل من نسل نوح عليه السلام، (لا مقام لعارف) أي لا حد يقف عنده عارفٌ (ورث النّبيّ الهاشميّ محمّدا) صلى الله عليه وسلم.
(عمّ المقامات الجسام عروجه) يعني عروج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث وصل إلى غاية الدنو المشار إليه بقوله تعالى {فكان قوسين أو أدنى} وقد قال له جبريل عليه السلام عند بلوغه المقام: أنت لو تقدمت لاخترقت وأنا لو تقدمت لاحترقت. فحاز أعلى مقامات القرب (وبذاك أضحى في القيامة سيّدا) كما جاء في الحديث من سيادته وتقدمه وشفاعته.
(صلّى عليه الله من رحموته) أي صلى عليه الله في حضرة الرحمانية المحيطة بسائر الحضرات لقوله تعالى {ورحمتي وسعت كل شيء} (ومن أجله الرّوح المطهّر أُسجِدا) يعني بالروح المطهر الملائكة الذين أمرهم الله بالسجود (لأبيه آدم والحقائق نوّم) أي وحقائق كل انسان خاملة في أدم عليه السلام، فكانت حقيقته صلى الله عليه وسلم في صلب أدم عليه السلام (عن قولنا) إي عما نقول به من حمل سيدنا أدم لحقائق ذريتهم وفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنبأنا تعالى في ميثاق الذر (وعن انشقاق قد هدى) إي أن جميع البشر كانوا في رتقٍ في ذلك الموقف ثم كان الفتق والانشقاق ذرية بعضها من بعض (فجوامع الكلم) أي حقائق المسميات (التي أسماؤهما في آدم) لقوله تعالى {وعلّم أدم الأسماء كلها} اما حقائق المسميات (هي للمقرّب أحمدا).
وسألت شيخنا الشيخ أيمن حمدي
عن قول الشيخ الأكبر رضي الله عنه وعن شيوخنا
« … المنازلة الأصلية : تُحدِث الأكوان ، وتُظهِر صور الممكنات في الأعيان . فمن علم ما قلناه ، علم العالم ما هو ، ومن هو . فسبحان من أخفى هذه الأسرار في ظهورها . وأظهرها في خفائها . فهي : الظاهرة الباطنة ، والأولى والآخرة ، لقوم يعقلون … »
الجواب:
سيدي الفاضل:
عَلِمنا في الجواب عن سؤالٍ سابقٍ أن المنازلةَ عبارة عن فِعلٍ حاصلٍ بين فاعلين، فكُلُّ فاعلٍ منهما سببٌ يكون عنه ذلك الفعل البارز.
فأما المنازلة الأصلية فهي مقابلة بين الأسباب الأوائل؛ أعني توجه إسمٍ إلهيٍّ على حقيقةٍ علميةٍ متوجهةٍ إليه بطريق المناسبة، وهي شيئية المعدوم الممكن الذي يقول لها الحق تعالى: كُن، فيكون ذلك الشيء خلقًا.
فهذا معنى قول الشيخ الأكبر رضي الله عنه: المنازلة الأصلية تُحدثُ الأكوان، وتُظهر صور الممكنات في الأعيان).
أما قوله: (فمَنْ عَلِمَ ما قُلناهُ، عَلِم العالَمَ ما هو) يعني عَلِم أن العالَم عبارة عن مظاهر تلك الشئون الإلهية، إذ كُلُّ عِلمٍ يطلبُ معلوما، وكلُّ إرادةٍ تطلبُ مُرادا، وكل قدرةٍ تطلبُ مقدورا، وكذلك كل معلومٍ يستندُ إلى علم العالمِ به، وكل مرادٍ يستندُ إلى إرادة مريده …الخ
فمن عقِلَ ذلك سبّح الله فيما أبداه وأخفاه، وعلِم أن كل أمرٍ مبدأهُ منتهاه، وفوق كل ذي علمٍ عليم.
سألت شيخنا الشيخ أيمن حمدي رضي الله عنه وعن مشايخنا
مولانا الكريم
يقول الشيخ الأكبر رضي الله عنه
كل نبي له امتيازه عن الأخرين يغلبه ظهور تجليات الحق من حيث اسم مخصوص من المائة ، وأن ذلك النبي وأمته مظاهر حقائق ذلك الاسم ورقائقه
وان هذا النبي هو كلية الأمة ، وان الله تعالى يتجلى له من حيث حقيقته وحيا وكشفا ، ويعلمه أنه لم يخلق خلقا أعز عليه منه ، وأنه سيد قومه …
ثم ذكر ان الله تعالى يخبر ذلك النبي بخروج دجال في زمانه على قومه وايضا يخرج مهدي يحكم بشريعته الى أن يظهر اسم آخر من الأسماء بظهور نبي آخر … ثم قال رضي الله عنه
ولم يزل الأمر كذلك حتى انتهى إلى ظهور اسم الله الأعظم بظهور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (انتهى)
في هذا الكلام عدة أمور أود أن أسأل عنها
أولًا: ما معنى قول الشيخ أن كل نبي له امتيازه يغلبه ظهور تجليات الحق من حيث اسم مخصوص
ثانيا ما مراده بقوله وأن ذلك النبي وأمته مظاهر حقائق ذلك الاسم ورقائقه
وان هذا النبي هو كلية الأمة
ثالثا ما مراده بالتجلي في قوله وإن الله تعالى يتجلى لهذا النبي من حيث حقيقته وحيا وكشفا
رابعا هل لكل أمة مهدي ودجال .
خامسا هل لم يكن اسم الله الأعظم ظاهرا لحين ظهور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
الجواب
السيد الفاضل
الحمد لله، وبعد
اعلم يا سيدي أن الدين عند الله الاسلام، وهو واحدٌ، وإنما كان الاختلاف في الشرائع؛ وهو تعددها؛ لتعدد النسب الإلهية، وظهور تعدد النسب الإلهية بحسب تعدد أحوال الخلائق، وتعدد أحوال الخلائق لاختلاف الازمان، واختلاف الزمان لاختلاف الحركات، واختلاف الحركات لاختلاف التوجهات، واختلاف التوجهات لاختلاف المقاصد، واختلاف المقاصد لاختلاف التجليات، واختلاف التجليات لاختلاف الشرائع.
هكذا بيّنها الشيخ الأكبر رضي الله عنه.
ولمّا كانت الخاصة العلية من أهل الله هم انبياءه وصفوته، كان نبي كل زمان عبارة عن مظهر الحق تعالى الدال عليه، فهو مجلى الاسم الإلهي الذي ظهرت عنه شريعة ذلك النبي، لكون اختلاف التجليات لاختلاف الشرائع، كما سبقت الإشارة.
فقد علم سبحانه وتعالى ان أحوال أهل كل زمان بحسب النسب الإلهية البارزة من حضرة أسمائه إليهم.
ثم اعلم أن كل اسمٍ إلهي فيه جميع الاسماء، لكون كل اسمٍ هو اسم الله تعالى، وإنما يكون بطون الاسم المعين أو ظهوره بحسب ما يناسب أحوال الخلائق من الأحكام الإلهية.
ثم إن كل أهلِ زمانٍ ظهر فيه نبي هم أمته؛ مؤمنهم وكافرهم، وأن أفراد الأمة المعينة عبارة عن مظاهر حقائق الاسم المتجلي في زمان ذلك النبي من حيث قبولهم أحكام ذلك الاسم وما في حيطته من الاسماء. ويكون ذلك النبي مجموع ما تظهره حقائق امته بما هو مظهر الحق المتجلي في زمان نبوته بالاسم المخصوص. ولابد أن يتجلى الحق تعالى لذلك النبي من حيث ذلك الاسم، وهو الاسم الأعظم في حقه، كما أن ذلك النبي أرفع خواص الحق تعالى في ذلك الزمان، وأقربهم للاسم المخصوص بذلك التجلي.
ولمّا كان ذلك الاسم فيه ما فيه من احكام الاسماء كان في أمة ذلك النبي من هو مجلى الهادي ومن هو مجلى المضل، فمجلى الهادي مهدي ذلك الزمان، ومجلى المضل دجاله، (إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من ينيب).
ويكون هذا في كل أمةٍ وزمان لتجليه تعالى على كل امةٍ بما يشاء من الأحكام المناسبة لأحوال تلك الأمة.
ولمّا بعث الله تعالى سيد الخلق محمد صلى الله عليه واله وسلم، واستدار الزمان على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها قبل خلق عمار السموات الارض، وهي أكمل دورات الزمان، كمُلت أحوال الخلق الذين هم أمة نبي اخر الزمان المبعوث إليهم، فتجلى الحق تعالى بالاسم المائة الذي مظهره سيدنا محمدٍ صلى الله عليه واله وسلم، وما شهد كمال تجليه باسمه العظيم الأعظم إلا خاتم نبوته، وفي ذلك الاسم الذي لم يشهد تجليه الى سيدنا محمد جميع الاسماء، فخاطبه به وحيا وكشفا، وقد كان قد ظهر لكل نبي باسم وابطن فيه سائر الاسماء، حتى اكتملت دورة الزمان فبطُن الاسم الأعظم وظهرت الاسماء التسعة وتسعون في أمته صلى الله عليه وسلم، ومجموعهم هو الاسم المائة، كما أنه صلى الله عليه واله وسلم مجموع حقائق أمته والله أعلم.
سألت شيخنا الشيخ
عن كلام ذكره الشيخ الأكبر رضي الله عنه يفهم منه بعض الأفاضل أن الشيخ الأكبر لا طريقة له
وهذا نص كلامه
و نهاني عن الانتماء إلى من لقيت من الشيوخ و قال لي لا تنتم إلا لله فليس لأحد ممن لقيته عليك يد مما أنت فيه بل الله تولاك بعنايته فاذكر فضلَ من لقيت إن شئت، ولا تنتسب إليهم، وانتسب إلى ربك.
وكان حال هذا الإمام مثل حالي سواء لم يكن لأحد ممن لقيه عليه يد في طريق الله إلا لله هكذا نقل لي الثقة عندي عنه
فأجابني رضي الله عنه بما يلي :
اعلم سيدي الفاضل أن الشيخ الأكبر محيى الدين ابن العربي يذكرُ في هذا الموضع نصيحة الإمام المشار إليه، موضحًا تشابه حاليهما في أطوار السلوك على طريق الحق تعالى.
ولا يُفهم من نصيحة هذا الإمام بألا ينتسب إلى أحد من الشيوخ، أن لا ينتمي إليه التلاميذ، إذ المعوِّل عليه في مسألة الانتساب حصول الانتفاع والفتح على يد الشيخ المربي.
وقد ذكر الشيخ الأكبر أنه ممن سبق فتحُهُ رياضَتَه، موضحًا أن الأصل أن تسبقَ رياضةُ السالك فتحَهُ، ومعلومٌ أن الفتحَ محض منة، ولا يقوى عليه كل أحدٍ، ولذلك قدموا الرياضة المؤهلة.
وكان رضوان الله عليه قد دخل الخلوة بغير شيخ قبل أن يخضر شاربه، فرفع الله عنه الحُجبَ، وقابل أول ما قابلَ من أرواح الأنبياء والرسل عليهم السلام روح نبي الله عيسى، وتاب على يديه، ثم أمره بصحبة الشيوخ الأحياء من أهل زمانه، وقد ذكر شيوخه في مؤلفات منها روح القدس في مناصحة النفس، ومختصر الدرة الفاخرة فيمن انتفعت بهم في الطريق إلى الاخرة، وفهرست مؤلفاته وشيوخه، وإجازته إلى الملك المظفر، بالإضافة إلى ما جاء في الفتوحات المكية وغيرها.
وقد بيننا أن معنى أن لا ينسب نفسه إلى أحدٍ من شيوخه، فلكون فتحه لم يكن على يد أحدٍ منه، وقد ذكر فضائلهم وما تلقاه عنهم فيما أشرنا إليه من الكتب.
ومن كان بهذه المثابة فهو الولي الجامع المتفرد بطريقته، وقد روي عن بعض الشيوخ من أصحاب الطرق الكبرى مثل هذا القول، بل لو كانوا نسبوا أنفسهم إلى شيخ لنا انفردوا بتأسيس الطرق، بل لا يشترط في ظهور رقهم أن ينسبوا التلاميذ إليهم، وإنما يفعل ذلك الخلف مع السلف، فيقول السالك اتبعت طريقة شيخي فلان حتى فتح الله عليَّ.
واعلم سيدي أن الطريقةَ عبارة عن شيخٍ، ومريدٍ، ومنهجٍ للسلوك، ومُقرَرٍ مِن الأعمال. وقد اكتمل كل ذلك في حياة الشيخ الأكبر، واجتمع بين يديه عشرات التلاميذ الذين أقروا بشيخوخته عليهم وتربيته لهم كالقاضي اسماعيل بن سودكين، والشيخ المرافق عبد الله بدر الحبشي، وربيب الشيخ الأكبر سيدي الشيخ الكبير صدر الدين القونوي، وغيرهم ممن احتفظت مخطوطات مؤلفاته رضي الله عنه بأسمائهم وسماعهم عليه
وقد ذكرنا في مواضع عديدة أسماء الأكابر من الشيوخ الذين أثبتوا في كتبهم ورسائلهم تلقيهم لطريقة الشيخ الأكبر بأسانيدهم المتصلة إليه، كسيدي مؤيد الدين الجندي الذي سلك طريقة الشيخ الأكبر بإرشاد الشيخ الكبير صدر الدين القونوي، وكالعلامة عبد الغني النابلسي، والشيخ أحمد القشاشي الدجاني، وسيدي محمد بن علي السنوسي وسيدي أحمد بن إدريس، والشيخ ضياء الدين الكمشخناوي، والشيخ العلامة مرتضى الزبيدي، كل هؤلاء الأكابر ثبت عنهم تلقيهم للطريقة الأكبرية حتى وصلت إلى شيوخنا الذين تفضلوا علينا بإجازتنا في تلقينها