تخطى إلى المحتوى

مدخل إلى علم الأولياء (4)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه، وبعد،

لما كان من دواعي كلامنا في علم الحروف، دفعُ الوهم، ورفع الالتباس، والتحذير من الخوض فيه دون دليلٍ واعٍ، أو طلبه من الكتبِ بالأفكار، ذكرنا بعض كلامهم في الطبائع، وما يقع من الاختلاف بحسب مذاهبهم في ذلك العلم، على أن ما يجده المُطالع من الاختلاف الذي قد يجده في مصنفاتهم، لا يمكنه من الاختيار والترجيح بين الأراء ما لم يعلم أسباب ما وجد، وبخاصةٍ إذا لم يكن له دراية تامة بالأصول التي ينبني عليها كل مذهب، وقد قيل: من ترك الأصول، حُرِم الوصول.

فأول ما ينبغي النظر إليه في كلام أهل ذلك العلم العزيز، إنما هو ذكرهم لطبائع الحروف، فليس يدرك كل أحدٍ معنى قولهم في الحرف المُعيَّنِ أن طبيعته كذا وكذا، إذ كيف يدرك المطالع لكلامهم أن ذلك الحرف حارٌ يابسٌ، أو باردٌ رطِبٌ، وليس ذلك مما يدرك بالسمع في الملفوظ، ولا بالنظر في المرقوم أصلا، فيُخشى على من يأخذ العلم من الأوراق أن يقع في الإنكار عليهم، إن كان ممن يسارع بالإنكار، أو أن يغلب عليه وهمه إن كان ممن ينظر إليهم بعين التبجيل والإكبار، وقد علِمنا اختلافهم الظاهر في تقسيم الحروف على الطبائع، وكذلك تعددت أسباب ذلك الاختلاف، فمنها ما أشرنا إليه من قبل، ومنها ما سوف نقف عليه عن قريب بإذن الله، وكنا قد ألمحنا أن من الحكماء من برع في معرفة الطلسمات والرقى، ومنهم من اختُص بالعزائم، ومنهم من اعتنى بالنجوم، إلى غير ذلك مما لا نطيل بذكره، فإن أهل كل فن قد قسموا الحروف بما وجدوه فيما هم يحترفون.

ومما ينبغي الوقوف عليه من الأسباب، أن منهم من نسب الحرف إلى طبيعة مخرجه في آلة النطق، فقال هذا حرفٌ رطبٌ لرطوبة وجدها في مخرجه، وليس الحرف كذلك في مَدرَك السمع، فتنبَّه إلى ما أقول، تعلم سبب اختلاف أهل هذا المذهب فيما بينهم، مع كونهم اتفقوا في الأصل، كما هو الحال بين أهل المشرق وأهل المغرب، وكذلك عند غير العرب، ومَن تأمل اختلاف اللغات واللهجات لم يعسر عليه فهم هذا الكلام، فإننا نجد اختلافا بين الناطقين بالعربية في أصوات بعض الحروف كالضاد والظاء والشين والكاف والسين والصاد، ومن هنا أسسوا لما اختلفوا فيه، فهذا وجهٌ من وجوه نسبتهم الحروف إلى الطبائع، وليس حرف الألف حارًا في اللفظ أو السمع أو البصر أصلا، بل لا يقع الأثر عليه في مدارك الناس، إنما يكون الأثر في الحروف الروحانية التي ذكرناها من قبل ونذكركم بها الآن، وهي:

قوة السمع، وقوة البصر، وقوة الشم، وقوة الذوق، وقوة اللمس، وقوة الفكر، وقوة الخيال، وقوة الوهم أو التصوير، وقوة التدبير، وقوة التشكيل، وقوة الحفظ، وقوة التصريف.

فإن الأثر يحدث في هذه القوى وعنها، وهي التي تمد الحروف اللفظية والرقمية، وتحمل عليها المعاني والمقاصد، وبحسب تلك الحروف الروحانية يكون التوجه الوجداني، كما أن الحروف الروحانية تستمد قواها من الحروف النورانية التي هي فيض الصفات الإلهية، فلا تجعل أيها المريد اللبيب الأسباب حجابا، ﴿وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [الصافات: 96].

وقد علمت أيضا أن الله تعالى ببديع حكمته قد خلق الحروف أرواحًا، وأنه أسكنها المنازل، وجعل لها نظرٌ إلى مركز الأرض، وتنزلات إلى عالم الخلق، قال تعالى: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ وَمِنَ ٱلۡأَرۡضِ مِثۡلَهُنَّۖ يَتَنَزَّلُ ٱلۡأَمۡرُ بَيۡنَهُنَّ لِتَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عِلۡمَۢا﴾ [الطلاق: 12].

ولما علِم الربانيون والحكماء هذا نسبوا الحروف إلى طبائع المنازل، لمَّا رأوا اختلاف طبائع الأبراج، فإن المنازل مقسمةٌ على الأبراج، وليس هذا الموضع يصلح لذكر ذلك التقسيم، فلنغض الطرف عنه الآن، ولنعرج على مدارج تنزلات الحروف في الأفلاك، وما لكل فلكٍ من الحروف، فإنهم قد قسموا الحروف من حيث تنزلٍ ما إلى تسعة أقسام على تسعة أفلاك، وذلك بطبيعة العدد، فجعلوا للفلك الأطلس حروف “أيقغ“، ولفلك الكواكب الثابتة حروف “بكر“، ولفلك زحل حروف “جلش“، ولفلك المشتري حروف “دمت“، ولفلك المريخ حروف “هنث“، ولفلك الشمس حروف “وسخ“، ولفلك الزهرة حروف ” زعذ“، ولفلك عطارد حروف “حفض“، ولفلك القمر حروف “طصظ“، هذا عند المشارقة، وخالفهم المغاربة فيما هو معلوم من الحروف، وقد ذكرناه من قبل.

فانظر إلى هذا التقسيم تعرف أن من نظر منهم إلى نسبة الحروف إلى الأفلاك قال حرف كذه طبعه كذا بحسب موافقته لطبيعة فلكه، ومن نظر منهم إلى نسبتها مع الكواكب قال حرف كذا عنصره كذا، كالهاء عنصره النار، والباء عنصره التراب في رأي، فإنَّ الكواكب عنصرية، والأفلاك طبيعية، وليست الحروف من عالم العناصر أصلا، فتفطن لذلك تأمن أغلاط الأوهام في هذا الوجه بإذن الله.

ثم نعرج على وجهٍ أخر قسموا الحروف من حيثه إلى نارية وهوائية ومائية وترابية، وذلك أنهم وجدوا لما اصطلحوا عليه بالحروف أثارا، وأقول: “اصطلحوا” لما أشرنا إليه بقولهم: “الحروف ظروف” إذ الحرف لا فعل له فاعلٌ أصلا، وليس أي سببٍ من الأسباب يفعل أيضًا، والحق تعالى غنيٌّ عن الأسباب، وإن فعل عندها لا بها، وهذا اعتقاد أهل الحق؛ ثم نرجع ونقول: فما وجدوه من العمل بحرف ما يؤثر سرعةً في المطلوب اصطلحوا على أنه حرفٌ ناريٌ، وما يؤثر رسوخا مثلا سموه ترابيا، وما يؤثر تقلبا سموه هوائيا، وما يؤثر بطأً سموه مائيا، وهذا مثال للتقريب.

فانظر إلى هذا العلم العزيز، ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ ﴾ [الإسراء: 36] ، واسأل الله رفع الحجاب، يسخر لك الأسباب، ويؤتيك علما من الكتاب بمحض فضله، والله من وراء القصد، لا رب غيره.

أيمن حمدي الأكبري


اكتشاف المزيد من الطَّرِيقَةُ الأَكْبَرِيَّةُ الحَاتِمِيَّةُ

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

2 فكرتين بشأن “مدخل إلى علم الأولياء (4)”

اترك تعليقك

اكتشاف المزيد من الطَّرِيقَةُ الأَكْبَرِيَّةُ الحَاتِمِيَّةُ

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading